ـ كتب: أمين درهم

 

الفنان فضل محمد اللَّحجي فنانٌ بكل ما تعنيه الكلمة من معنى من حيث أخلاقه الراقية، وإحساسه الفني المُرهف، وتعامله الجميل مع الناس، بل ويعد من أبرز الفنانين في الزمن الجميل والأصيل، حيث مثَّل هو والأمير القمندان ثنائياً رائعاً وخلاَّقاً، أمتعا مسامعنا بالعديد من الروائع الغنائية الجميلة، وكانت بداية معرفتي بالفنان اللَّحجي في منتصف عام 1961م عندما وصل إلى مدينة تعز برفقة الفنان أحمد يوسف الزَّبيدي لغرض الحصول على جواز سفر يـمني للفنان الزَّبيدي ليتمكن من السفر إلى السعودية، وفي هذه الزيارة حضرت له جلساتٍ فنيةً رائعة، سجَّلت له بعضاً منها، وكانت أغنية (وا مغرد بوادي الدُّور) هي الأجمل. وفي عام 1964م كان لقاءنا الثاني في مدينة تعز، عندما أسسنا فرقةً موسيقيةً برئاسته وعضوية الفنانين: علي بن علي الآنسي، وعلي عبدالله السِمة، وعبدالرحمن الأنسي، ومحمد قلالة، ومحمد العوامي، حيث كان فناننا اللَّحجي هو المُلحن والمُدرب على أغلب الآلات الموسيقية لهذه الفرقة، ثم كان اللقاء الثالث في العاصمة (صنعاء) بعد ذلك. وتعود جذوره إلى منطقة (موزع) بدمنة خدير محافظة تعز، واسـمه الحقيقي فهو فضل محمد الجبلي، أما اسـمه الفني فقد أطلقه عليه الأمير الفنان أحمد فضل العبدلي (القمندان) حيث سـمَّاه فضل اللَّحجي لربطه بـمحافظة لحج؛ وذلك لمعرفة الأمير بنبوغ هذا الفنان وهذا أولاً، وثانياً كان لدى القمندان مشروعٌ يتمثل في تطوير الأغنية اللَّحجية، حتى تصبح مواكبةً للألوان الأخرى من الفن اليمني والفنان فضل اللَّحجي من مواليد عام 1910م في مدينة (الحوطة) بـمحافظة لحج، وتلقى مبادئ القراءة والكتابة والعزف على آلة العود على يد أبيه، ثم تعهد الأمير القمندان به وبزميله مسعد بن أحمد حسين، وجعل منهما مطربين مشهورين في اليمن وخارجها، وكما هو معلومٌ عن إعجاب الأمير به، وتشجيعه له حيث أصبح الأمير القمندان بالنسبة للفنان فضل اللَّحجي الأستاذ والمعلّم والمرّبي، كما كان المشجّع المُتعصّب لفنه، وهو من مهّد له الطريق والعقبات التي تواجهه، وجعل له حظوةً في البلاط الأميري السُّلطاني لم ينلها فنانٌ قبله، وقد بلغت معزّة ومحبّة الفنان فضل اللَّحجي في قلب الأمير الشاعر درجةً كبيرةً حتى أنه يذكر اسـمه في قصائده الشعرية الرائعة، كما غدا الأمير الشاعر أيضاً أحد أسباب شهرة الفنان، بل أنه كان السبب الرئيسي فيما حقّقه الفنّان من مجدٍ وحظوةٍ وشهرة على أقرانه، كما كانت لموهبة الفنان فضل محمد اللَّحجي ونبوغ عبقريته المبكرة في إجادته العزف على العود والكمان وغيرها من الآلات الموسيقية إسهامٌ كبير فيما بلغه من شهرة جاوزت حدود لحج إلى عموم محافظات اليمن من الجبل إلى الساحل، بل وغطّت شهرته أيضاً مناطق واسعة من إفريقيا كدول (جيبوتي والصومال والحبشة وكينيا) ودول الخليج. ولهذا فمن المستحيل فصل الشاعر الأمير أحمد فضل العبدلي (القمندان) عن الفنان فضل محمد اللَّحجي؛ إذ قلّما تأتي على ذكر الأمير الشاعر دون أن تذكر الشيخ الفنّان والعكس صحيح.. فقد كانا توأما لحج الروحي، ذاك الأب والمعلّم وهذا الابن والتلميذ.. ويذكر الأستاذ عبدالحميد عبد الرقيب محمد اللَّحجي – ابن شقيق الفنان فضل محمد اللَّحجي– المُقيم في لندن، نقلاً عن أبيه عبد الرقيب شقيق الفنان بأن الأمير الشاعر هو من أخذ بيد الفنان، وربّاه وعلّمه، وسخّر له كلّ ما من شأنه رفع مكانته الفنية بين الفنانين من توفير الأسطوانات، والسماع إلى المطربين المخضرمين، وتزويده بـمختلف الآلات الموسيقية، وتقديم أجمل الأشعار إليه، وترديد أعذب الألحان والأنغام بصوته.. وكان دائماً ما يصحبه إلى الأعراس والحفلات، وبـما أن الأمير نفسه كان يجيد العزف على مختلف الآلات الموسيقية؛ فقد ساعد الفنان اللَّحجي على استخدامها وتعلمها. أما أول أغنيةٍ رسـميّة غنّاها الفنان فضل اللَّحجي فكانت من كلمات وألحان صديقه الأمير (القمندان)، وهي أغنية (وا طير – سرى الهوى في الحسيني)، تلتها أغنيته الثانية هي: (معي جاهل وفي ساعده قشقش)، أمّا الثالثة والشهيرة فقد كانت أغنية (صادت عيون المها)، وقد سُجلت كلّ تلك الأغنيات لشركة (أوديون) في عدن. وعندما ضاقت عليه سُبُل العيش والمعيشة في اليمن، قرَّر الفنان فضل اللَّحجي أن يُسافر إلى الكويت إلا أنه لم يـمكث فيها طويلاً، ليعود الطائر إلى عشّه من بعد هجرته القصيرة.. ويُحسب للفنان فضل اللَّحجي اكتشافه للعديد من المواهب الشابة، والعمل على صقلها وتبنيها حتى ذاع صيت البعض منهم؛ فأصبح لهم دورٌ بارزٌ في الوسط الفني، وغدوا نجوماً مشهورين يشار إليهم بالبنان، ولا يزالوا محتفظين بـمكانتهم المرموقة، ويأتي على رأس هؤلاء الفنان الكبير فيصل علوي الذي ورث العود الذي طالما عزف عليه أستاذه الكبير الفنان فضل محمد اللَّحجي. والفنّان اللَّحجي يعتبر موسوعةً في الأغاني والألحان اللحجيّة واليمنية العذبة والجميلة، ويكفيه فخراً إذا ما قيل عنه أنه: التوأم أو الابن الروحي للشاعر الأمير أحمد بن فضل علي العبدلي الشهير بـ(القمندان)، والأب الروحي لكلّ من غنّى في عصره ومن بعده للحج الخضيرة وللحسيني ولغزلان الوادي على شاطئ البحيرة و(لبا نجناه من الفل والكاذي والعنبرود).. وهو الأب الروحي للفنان محمد صالح حمدون، والفنان الرائع فيصل علوي، والفنان أحمد يوسف الزبيدي، والفنان عبدالكريم توفيق، وغيرهم من الفنانين. وقد تفرّد فضل محمد في تطوير بعض ألحان القمندان وبعض ألحان التراث بالإضافة إلى ابتداعه لألحان جديدة فحافظ على مدرسة القمندان وأضاف إليها. ويُعد فضل أفضل عازف على آلة العود في جزيرة العرب، وأكبر مطربي اليمن. عُرف ببساطته وتعاونه ومحبته للناس وعزّة نفسه. تزوج الفنان فضل من ثلاثة نساء، أنجب منهن (3) أبناء، هم: ابنه البكر أحمد – وهو مقيمٌ حالياً في المملكة العربية السعودية – وقد سـمَّاه على اسم صديقه الأمير الشاعر، ثم ابنه الثاني عبدالكريم والذي يقيم في العاصمة (صنعاء)، وابنه الأخير أسعد الذي ما يزال في مدينة الحوطة بـمحافظة لحج. عاش الفنان فضل اللَّحجي أواخر أيام حياته في مدينة (المنصورة) بـمحافظة (عدن) مع عائلته، ولم ينقطع عن الغناء والتلحين حتى توفاه الله في 3 فبراير 1967م إثر طلقاتٍ نارية من أحد الأشخاص– نظراً لاشتعال الانتفاضات الشعبية والحراك الثوري وانعدام الأمن السائد في عدن في ذلك العهد ، تسبّبت بوفاته، رحمه الله تعالى، حيث نقل جثمانه إلى مسقط رأسه في مدينة الحوطة بـمحافظة لحج ليوارى الثرى في المدينة التي نشأ فيها ونجح وزامل فيها (القمندان).. وقد جمع الشاعران أحمد صالح عيسى وصالح سعيد نصيب سيرة حياته في كتاب: (فضل محمد اللحجي: حياته وفنه)، دار الهمداني عام 1984م. لم يُخلّف الفنان اللَّحجي بعد موته أيُّ مالٍ؛ فقد سكن مع عائلته ببيتٍ متواضعٍ بالإيجار، لا تركة من عقار أو مال، وبـموته تطوى أنصع صفحة من سجلات تاريخ الغناء اليمني القديم وحاضره وتبقى عبقرية الفنّان الشيخ فضل محمد اللَّحجي وفلسفته في الطرب والغناء والتلحين خالدةً على مرّ العصور، ويبقى تراثه درساً لكلّ الأجيال. وبـموته فَقَدَ اليمن من جنوبه إلى شـماله أسطورةً من أساطير الغناء، مات فضل محمد اللَّحجي، كما مات من قبله صالح عبدالله العنتري دون أن يدري بـموته أحد، كما مات من قبله أحمد عبيد قعطبي سقيماً دون أن يسأل عنه أحد، كما مات من قبلهم محمد جمعة خان، وهو لا يـمتلك حق الدواء، ولم يسعفه أحد، كما مات من قبله شيخ البار، وصالح باعيسى من بعده غريبا الأوطان والديار لم يتواصل معهما أحد، كما ماتوا قبله وبعده الشيخ يحيى عمر «اليافعي»، والشيخ علي أبوبكر باشراحيل، والشيخ قاسم الأخفش، والشيخ إبراهيم محمد الماس، وعوض عبدالله المسلّمي، وأحمد عوض الجرّاش، وعمر محفوظ غابة، ومحمد علي الدَّباشي، ومحمد سعد عبدالله، وعبدالقادر بامخرمة، وعلي الآنسي، وفيصل علوي،... وغيرهم، كلّ قد مات إمّا فقيـراً معدماً أو غريباً مهاجراً.. هؤلاء العمالقة خدموا وطنهم وأمتهم وما يزال الكلّ ينهل من فنونهم وعلومهم ومعارفهم، ولم يقتصر اقتفاء أثرهم وتقليدهم على أبناء اليمن، وإنـمّا امتدّت آثارهم إلى عموم نواحي الجزيرة العربية والخليج والوطن العربي وآسيا وأفريقيا، وغَرَفَ من تراثهم من غرف, حملوا اسم اليمن في قلوبهم أينما رحلوا وحيثما حلّوا, لم ينسوا اليمن يوماً، ولكنّنا تناسيناهم ونسيناهم حتى اليوم.. والواجب على الجهات المختصة في بلادنا إنصاف هؤلاء العمالقة وإطلاق أسـمائهم في قطاعات الإعلام والشوارع واعتماد مرتباتٍ لأسرهم كأقل تقدير لهؤلاء الرواد، فهل من مجيب؟!

حول الموقع

البيت اليمني للموسيقى والفنون منظمة مجتمع مدني تُعنى بالموسيقى والفنون.