ـ لطف الصراري ـ مجلة الجسررة ـ العدد 59 
 
ليس هناك ما يثير الاستغراب من وجود مؤسسة موسيقية في صنعاء؛ فهي واحدة من أقدم مواطن الغناء في العالم العربي، ولموسيقاها طابع خاص وفريد. لكن المدينة تختنق بالحرب، لذلك فإن تجربة البيت اليمني للموسيقى والفنون تثير الإعجاب، من حيث بدايته واستمرار أنشطته وسط المناخ شديد القسوة المصاحب للحرب.
 
حلم كبير
كان إنشاء هذا البيت حلمًا كبيرًا لمؤسسه فؤاد الشرجبي؛ في البداية تمنى أن يجد مؤسسة مماثلة ضمن البنية التحتية لمؤسسات الدولة، لكنه خبِر بالتجربة أن الأماني أصعب من الأحلام. في العقد الأول من الألفية الثالثة تحقق الحلم، وفي مطلع العقد الثالث من الألفية نفسها، صار الحلم المتحقق بأمسّ الحاجة لآمال كبرى لكي يستمر.
 
يصعب فصل قصة هذا المشروع عن سيرة الفنان ذي الأحلام الكبيرة والروح الدؤوبة، في بيئة غير مواتية. مثل المئات وربما الآلاف من شباب اليمن، كان حلم فؤاد أن يدرس الموسيقى، لكن هذا الفنّ، مثل غيره من الفنون، لم يكن على قائمة أولويات الحكومة والمجتمع في شمال اليمن. عدا ما يخص الفعاليات الرسمية وما تحتاجه الموسيقى العسكرية، لم يكن متاحًا لأي شاب أن يحصل على فرصة لتعلّم الموسيقى ما لم يلتحق بالجيش.
 
يصعب فصل قصة هذا المشروع عن سيرة الفنان ذي الأحلام الكبيرة والروح الدؤوبة، في بيئة غير مواتية
 
قليلون حصلوا على منح دراسية خارج اليمن بغرض العودة للعمل ضمن مؤسسة الجيش أو وزارة الثقافة، أما فؤاد، الشاب العصامي، فلكي يحصل على مؤهل جامعي، درس “الشريعة والقانون” في جامعة صنعاء عن بعد. وفي مدينة تعز، استمر في صقل مهارته في العزف وتثقيف نفسه موسيقيًا، والمشاركة في الفعاليات الداخلية والخارجية لوزارة الثقافة. في إحدى الحفلات الفنية بسوريا، لفت أداؤه انتباه الجمهور وكان بينهم قيادات من اتحاد طلاب اليمن في سوريا. تحمس الطلاب لمتابعة إدارة المعهد العالي للموسيقى بدمشق من أجل منحه مقعدا دراسيا، ومع توفر المقعد الدراسي، وافقت وزارة الثقافة اليمنية على التكفل بالمنحة المالية، كون فؤاد أحد موظفيها. فرصة متأخرة، لكنه حصل عليها، ودرس التأليف والتوزيع الموسيقي من 1996- 2000.
 
التأليف والتوزيع الموسيقي، هو المسار الذي اختاره فؤاد لحياته المهنية، لذا كرّس جهده لتأليف موسيقى تصويرية خاصة للمسلسلات والوثائقيات وأفلام الكرتون في التلفزيون والإذاعة الوطنية، حتى قبل أن يدرس الموسيقى. ومثل جميع الفنانين اليمنيين، تعلم العزف ذاتيًا، مع فارق أنه لم يبدأ بالعود الذي يعتبر الآلة الأساسية في الغناء اليمني. بدأ بالأكورديون، الأورج الكهربائي متعدد الآلات، ثم العود، ومع مطلع التسعينات كانت موسيقاه في المسلسلات والبرامج التلفزيونية، تلفت انتباه المشاهدين لتتبّع ظهور اسم مؤلفها في شارة النهاية أو البداية.
 
وعلى الرغم من تعيينه في مناصب إدارية بوزارة الثقافة، لم ينقطع عن ممارسة التأليف والتوزيع الموسيقي، مع إعطاء أغاني الأطفال حيزًا كبيرًا من اهتمامه. أبعد من ذلك، احتفظ فؤاد بانفتاح أذنيه ووجدانه على الأغاني والأهازيج الشعبية؛ الشاب الذي نشأ على استعذاب الأغاني والأناشيد الصوفية، بدأ يدرك اتساع وتنوع الموروث الغنائي واللحني لبلده، وأمعن في تذوّق خصائصه الجمالية متناهية الدقة والفرادة. ولأن الموروث الغنائي ظل في أسفل اهتمامات “الحكومة والقطاع الخاص”، كما يقول، شعر الفنان بالغبن والألم، عندما كان يسمع أغاني من المحيط العربي بألحان يمنية منسوبة لغير مؤلفيها أو مصدرها الفلكلوري الأصلي. هكذا اكتمل تشكُّل الحلم الكبير بإنشاء مؤسسة تعنى بـ”رصد وتوثيق الغناء اليمني”، إضافة لـ”تعليم الموسيقى” و”نشر الوعي الموسيقي” أو “محو الأمية الموسيقية” في اليمن، بتعبير آخر طالما تكرر على لسان الفنان. ثلاثة أهداف رئيسية حددها بما يكفي من الوضوح لينهض بها، خاصة مع تصاعد الخطاب الديني العدائي تجاه الموسيقى وتدريسها، وسقوط الفنون من ذيل قائمة اهتمام الحكومة.
 
دوران العجلة
ليس فؤاد الشرجبي سوى واحد من مئات الفنانين الذين أثروا الساحة اليمنية بعشرات الآلاف من الأغاني عبر تعاقب الأجيال، واحد من آلاف المتألّمين على اندثار التراث الموسيقي لبلد محكوم بالحروب وازدراء الفن. غير أن إنشاء مؤسسة لتوثيق هذه الأغاني وإثبات حقوق ملكيتها الفكرية، لم يكن بالمهمة السهلة أو حتى في نطاق الممكن، سواءً من حيث الجهد، الرؤية أو التمويل. في 1 أغسطس/ آب 2007، أعلن عن تأسيس “البيت اليمني للموسيقى والفنون” رسميًا، بعد تسجيله في وزارة الشؤون الاجتماعية، كمؤسسة مدنية “غير ربحية”.
 
عدد المتخرجين من بيت الموسيقى اليمني بلغ حتى الآن 1500 عازف وعازفة
 
إلى الآن صار عمر البيت أربعة عشرة سنة وثلاثة أشهر. عمر طويل بالنسبة لمؤسسة مدنية أنشئت وتدار بجهد ذاتي، ولم تتوقف يومًا واحدًا، رغم الظروف الاقتصادية والأمنية التي طرأت على البلاد؛ ابتداءً بثورة 11 فبراير 2011، مرورًا بانقلاب الحوثيين (جماعة أنصار الله) في 2014، ثم انفراط عقد الاستقرار بالتدخل العسكري لـ”التحالف العربي” في 2015.
 
خلال هذا العمر، لم تفوّت همّة القائمين على أنشطة بيت الموسيقى لحظة دون تسخيرها للإنجاز أو في التخطيط له. وإلى الالتزام واحترام الوقت، هناك رؤية واضحة لما يريدون القيام به، وهي سمات يمكن ملاحظتها بسهولة في الشخصية العملية لمؤسس البيت ومديره العام، فؤاد الشَّرْجَبي. لعل ذلك هو ما اجتذب إليه تفاعل المختصين والمهتمين من داخل اليمن وخارجه، أفرادًا ومؤسسات. فعقب افتتاحه، كان من أوائل زائريه جان لامبير، المستشرق والباحث الفرنسي الذي عاش سنوات طويلة في اليمن، مفتتنًا بالغناء الصنعاني وباحثًا فيه، لدرجة وصفه بـ”طبّ النفوس”. أحمد فتحي وعبدالرب إدريس كانا أيضًا من الفنانين الذين جذب اهتمامهم النشاط التوثيقي والتعليمي لبيت الموسيقى، فزاروه تعبيرًا عن إعجابهم بالجهد الدؤوب الذي يقف خلف هذا الإنجاز. المدير العام لمنظمة الويبو العالمية لحقوق الملكية الفكرية، زار اليمن أيضًا في 2010، لتشجيع الحكومة على الانضمام للمنظمة، فكان البيت اليمني للموسيقى ضمن قائمة زياراته للمؤسسات المهتمة بحقوق الملكية الفكرية في البلاد.
 
خلال السنوات السبع الأولى من تأسيسه، وصل حجم المكتبة الصوتية لبيت الموسيقى 45 ألف تسجيل، بما فيها “مجموعة كبيرة ” أهداها للمكتبة وزير الثقافة الجيبوتي رفقي بامَخْرَمَة، وهو نجل الفنان اليمني/ الجيبوتي الشهير عبدالقادر بامخرمة. زار بامخرمة الابن بيت الموسيقى في 2014، وكان الفاصل بين زيارته وبين دخول اليمن نفق الحرب القاتم، أربعة أشهر فقط. بعدها فرغت صنعاء من البعثات الدبلوماسية، ولم يتمكن مدير بيت الموسيقى من تلبية دعوة الوزير ذي الأصل اليمني، للحصول على نسخ إضافية لأغاني يمنية أخرى من إذاعة وتلفزيون جيبوتي. ثم أخذت الحرب انعطافتها الكبرى في مارس/ آذار 2015، وكانت تلك الخضّة الثالثة في حياة المشروع الكبير. مع ذلك، استمر نشاط بيت الموسيقى في التوثيق الفني والتدريس، وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، تجاوز عدد التسجيلات الموثقة في مكتبة البيت 60 ألف، إضافة للأهازيج الشعبية والأناشيد، وكل عمل يتضمن لحنًا موسيقيًا. “مهمّ توثيق كل عمل ملحّن باعتباره جزءًا من مرحلة تاريخية للبلاد.” قال فؤاد. أما عدد المتخرجين من دورات تعليم العزف على الآلات الموسيقية ومساق الدبلوم، فبلغ حتى الآن 1500 عازف وعازفة، وهذا، بحسب فؤاد، عدد من أجادوا العزف عند التخرج، ويشكل الأطفال والفتيان والفتيات، خمسين بالمئة منهم.
 
 
البطء لا يعني التوقف
بالنسبة للتسجيلات الصوتية في مكتبة بيت الموسيقى، يُظهر الفارق بين الرقمين (45، و60 ألف) الفرق بين القدرة على العمل في ظروف السلم وظروف الحرب. مع ذلك، فإضافة أكثر من خمسة عشر ألف تسجيل صوتي للمكتبة التوثيقية في ظروف حرب، تعطي مؤشرًا بيانيًا لحجم التحديات التي يعمل وسطها بيت الموسيقى وفريقه.
 
يتضاعف هذا المؤشر حين الأخذ بالاعتبار شحة الموارد وصرامة الإدارة في التعامل مع عروض الدعم المشروط، ناهيك عن آلية التوثيق الدقيقة وغير القابلة للتساهل في إجراءاتها؛ فكل تسجيل يجيب أن تضمن: اسم الأغنية، كلماتها، لحنها، اسم الفنان أو الفنانين الذين أدّوها من الأقدم للأحدث، المقام الموسيقي، الآلات المستخدمة فيها، الزمن الإيقاعي، لونها- وفي اليمن قرابة سبعة ألوان غنائية، طبيعتها، مصدر تسجيلها- من الأقدم للأحدث أيضًا، وسنة التسجيل.
 
إلى هذا، تستمر برامج تعليم العزف على آلات البيانو، العود، الكمان، الجيتار، ومؤخرًا، أعلن بيت الموسيقى اعتزامه تشكيل فريق للعزف على “القَنبوس”؛ الآلة الوترية التي تظهر في نقوش آثارية من حضارة اليمن القديم، والتي شكلت خط الدفاع الأول للأغنية اليمنية في وجه القمع والاندثار. فخلال فترات قمع السلطات الحاكمة للغناء، ابتكر صانعو القنبوس في صنعاء تصميمًا قابلًا للطّي، بحيث يمكن إخفاءه والتنقل به دون لفت الأنظار. كما زوّدوا عنقه بمرآة تُمكّن الفنان أو أحد جمهوره قليل العدد، من رؤية أي شخص في طريقه إلى المكان الذي يجتمعون فيه للغناء والاستئناس بالطرب. من وظيفته الطربية المتخفّية وتصميمه القابل للطيّ، تعارف صانعو وعازفو القنبوس على تسميته بـ”الطُّرْبي”، فيما يحرص فؤاد وفريقه على إنقاذ هذه الآلة من الاندثار وحماية الحق الفكري لمنشأ ابتكارها الأول.
 
فريق للعزف على “القَنبوس”؛ الآلة الوترية التي تظهر في نقوش آثارية من حضارة اليمن القديم
 
 
في ذروة الأوقات العصيبة واستمرار آلة الحرب في تدمير البلاد، يستمر البيت اليمني للموسيقى في توثيق الأغاني، وتعليم الصغار واليافعين والشباب، من الجنسين، مهارات العزف وتحصين وجدانهم بالجمال. “أثناء قصف الطيران على صنعاء، كان الأطفال وآباؤهم يقولون إنهم يشعرون بالأمان عندما يحدث القصف وهم في بيت الموسيقى.” قال فؤاد، متذكرًا كيف كان وزملاؤه يرفعون مستوى صوت الموسيقى أثناء تدريب الأطفال ليطغى على أصوات الانفجارات. في ذاكرته مئات المشاهد التي تجعله أكثر ارتباطًا بالمكان، مئات الوجوه لطلبته المميزين، بمن فيهم عازف عود شاب اسمه بشير الجابر قال إنه صار عضوا في فرقة قطر الوطنية. وهو يؤمن بأن تعليم الموسيقى للأطفال والشباب لا يتعلق فقط باستكشاف الموهوبين للعمل في المجال نفسه، بل بما تمنحهم المهارات الموسيقية من جمال روحي، وقدرة على اختيار المسارات المناسبة لحياتهم.

حول الموقع

البيت اليمني للموسيقى والفنون منظمة مجتمع مدني تُعنى بالموسيقى والفنون.