أ/ فهد علي أحمد القباطي
 
كنتُ راكبا في الباص عائدا من قاعة المحاضرات في جامعة صنعاء، كان ذلك عام ١٩٩٧ م وأثناء مرور الباص في سوق منطقة الصافية رأيت مجموعة من الناس يشكلون حلقة دائرية، وسمعت صوتا اعتقدت أنه صوت الموسيقار محمد عبدالوهاب صادر من مسجل، فأثار تجمع الناس استغرابي فأوقفت الباص ونزلت لأجد إجابة لسؤال راودني هو إذا كان هذا الصوت صادر عن كاسيت لماذا يجتمع كل هؤلاء الناس حوله ؟! اقتحمت ذلك الجمع حتى وصلت قرب ذلك الصوت فذهلت وصعقت من هول المفاجأة وجدت رجلا ستيني يعزف ويغني، لم أستوعب أن ذلك الصوت الرخيم لشخص يفترش الأرض ويغني. صوت لا يقل شأنا عن عمالقة الغناء والطرب في مصر والشام. قعدت على ركبتي أستمع بإعجاب ودهشة حتى أكمل أغنيته.. تعرفت على اسمه من خلال لوحة كرتونية مكتوب عليها ادفع ميه تسمع أغنية، وتحتها  الفنان رشيد الحريبي ورقم البيجر، انتهى الجمع وبقيت أنا و الفنان رشيد غالب الحريبي وشخص لا أتذكر اسمه تحدث للفنان رشيد قائلا له : أنا الدكتور فلان صهر الفنان أحمد بن أحمد قاسم أريدك في جلسة مقيل. فرد عليه الفنان رشيد: الجلسة ستكلفك ألفين وغداء وقات. فقال له بكل ترحيب: وأنا موافق. فقلت بلهفة للأستاذ رشيد الحريبي: وأنا أطلب منك أن تشرفني غدا في جلسة مقيل. فقال لي: إن شاء الله سجل رقم البيجر واتصل عليه. انتظرت بفارغ الصبر و بشوق كبير لقاءه في اليوم التالي اتصلت به وذهبت إليه وأخذته من مكان سكنه المتواضع الذي لا يصلح للعيش الآدمي هو عبارة عن غرفة صغيرة جدا بالإيجار ملتصقة بأحد المنازل القديمة في حي الصافية لا تتسع لأكثر من شخص وأدواته، ولا تستطيع الوقوف بداخلها اصطحبت الأستاذ رشيد معي، وكانت المفاجأة الكبرى حيث دار بيننا حديث عن حياته ومجال تخصصه فقلت له أستاذي العزيز أنا طالب في كلية الإعلام ولدي تكليف بإجراء حوار مع شخصية أتمنى أن تكون ضيفي. كان التكليف إذاعي فقلت لنفسي سأعمل لقاءً تلفزيونيا كوثيقة تحفظ ولو جزءا يسيرا من تاريخ  هذا الفنان الكبير، وذهبت لمعهد خليفة في إذاعة صنعاء ونسقت مع الأستاذ عبدالرحمن مدير المعهد حينها رعاه الله فوافق، فأخذت آلة عود من أحد الأصدقاء قلت ربما يكون أكثر جودة من عود الأستاذ رشيد، ذهبت إليه في وقت المغرب لمحل سكنه و أخذت معي بدلة ورباط عنق كهدية يرتديها من أجل المقابلة التي سأسجلها معه..
 الفنان الكبير رشيد الحريبي عاش مهضوما ومات مظلوما طلبت منه ارتداء البدلة فقال لي عندما نكون في الاستيديو سأرتديها، وبعد أن هذب ذقنه وسرح شعره حمل عوده ومسجله الأسود وانطلقنا ووصلنا بوابة إذاعة صنعاء وأعطيت الأمن التصريح بتسجيل المقابلة في استديو معهد خليفة للإعلام فنظر الحارس للأستاذ رشيد وهو يحمل المسجل على صدره وممسكا للعود بيده، فقال لي: بإمكانك تدخل لوحدك لكن الأخ الذي معك اسمه غير مسجل في التصريح. قلت له: هذا الفنان والإعلامي الأستاذ رشيد الحريبي هو ضيفي والبرنامج مخصص له. فرفض حاولت إقناعه دون جدوى، فقلت له اتصل بالأستاذ عبدالرحمن فاتصل وسمح لنا مؤخرا بالدخول، وكان مسؤول الاستديو الأستاذ العزيز محمد فرحان في انتظارنا، وقد جهز طاولة ومقعدين والكاميرا التلفزيونية، ورافقنا ضابط الأمن للاستديو حتى أكملنا التسجيل، وكانت تلك أول وقفة لي أمام الكاميرا التلفزيونية وأول حوار أجريه مع مبدع بحجم الفنان رشيد الحريبي، حاولت إقناع الأستاذ رشيد بارتداء بدلته لكنه رفض واكتفى بارتداء القميص، ولم يرتدي البنطلون وقال لي الجو حار وكان لابسا معوز لكن الأستاذ محمد فرحان قال: المعوز لن يظهر في كادر الصورة  مسكت ربطة العنق لألبسها الأستاذ رشيد فقال لي: أنا أجيد ربطها بطرق مختلفة ما فيش واحد يربطها مثلي. بالفعل ربطها وقال هذه ربطة فرنسية، فقلت له أنا لا أجيد ربطها كما فعلت هل بالإمكان تساعدني وتربطها لي. دخلنا الاستديو وبدأنا الحوار سأحاول أن أتذكر بعضا من تفاصيله من ضمنها بدايات الخطوات الأولى الطموح والدراسة وانطلاقته الفنية حيث قال : كنت أعشق مجال الإعلام و سافرت إلى بغداد لدراسة الصحافة فتمكنت من دخول مجال الصحافة الذي أهواه . وسألته متى سمع الناس صوتك لأول مرة ؟ فقال:  في تلفزيون بغداد أثناء دراستي كان هناك برنامج تلفزيوني للمواهب اسمه ( ركن الهواة ) شاركت فيه ونجحت وكانت أول انطلاقة لي في مجال الفن من خلال هذه المشاركة وذلك البرنامج .. كان الفنان رشيد الحريبي راقيا في حديثه جميلا في أسلوبه ويمتلك صوتا إذاعيا رخيما. سألته هل عملت في مجال الإعلام تمتلك صوتا جميلا؟ فقال عملت في الستينيات مذيعا في إذاعة عدن، وكذلك في إذاعة تعز. فاستغربت كيف يهمل مثل هذا المبدع الكبير؟ سألته عن محطة أخرى وهي حياته في القاهرة في عصرها الذهبي، فقال عندما شاركت في برنامج ركن الهواة ولاقيت إعجابا وتشجيعا كبيرين جدا فكرت بالسفر إلى القاهرة، وهناك كنت على علاقة صداقة مع كبار المطربين والملحنين في مصر. وسألته ألم تحظى بفرصة هناك لتقدم نفسك كمطرب ؟ فكانت إجابته نعم عُرضتْ علي ألحان من ملحنين كبار وكذلك كنت مرشحا  للبطولة في فيلم ثورة اليمن رشحني مخرج الفيلم حينها المخرج عاطف سالم واعتذرت لظرف خاص، وقام بالدور بدلا عني الفنان حسن يوسف. وسألته عن أعماله الفنية وتسجيلاته فقال سجلت في تلفزيون صنعاء مجموعة من الأعمال الغنائية منها (نظرة من الشباك يا حالي المبسم)، وأغنية (يا زارعين الورد لون الورد أحمر)، وأغنية (طبعك عجيب)، و(حبيبي غاب عني)، وإحداها لشاعر سوري لا يحضرني اسمه، وأضاف سجلت أيضا مجموعة من الأعمال الوطنية لإذاعة صنعاء . حاولت الحصول لاحقا على تسجيلاته من قناة اليمن واستغرب حينها الأستاذ العزيز لطف الخميسي رعاه الله قائلا لي: لأول مرة شخص يبحث عن أعمال الفنان رشيد الحريبي، لكنه تفضل مشكورا بالتعاون معي وأعطاني نسخة من  الأغاني، ولم أتمكن من الذهاب للإذاعة للحصول على أناشيده الوطنية المهم واصلنا حوارنا وسألت الأستاذ رشيد عن الفرص التي كانت بين يديه وعلاقاته بفناني الوطن العربي وتحديدا الخليج، وتحدث عن فرصة كانت بين يديه وهي أنه عرض عليه من أحد الأشخاص البقاء في إحدى دول الخليج، ومنحه راتبا وسكنا، لكن جوها لم يناسبه لظروفه الصحية؛ لأنه كان يعاني من مرضي السكر والضغط فأعتذر وسافر، وأستطرد قائلا ربطتني علاقة بالكثير من الفنانين في الخليج منهم الفنان طلال مداح وشاركته الغناء في حفلات على المسرح، وكان قد أراني صورة تجمعه بالفنان الكبير طلال مداح أخرجها من شنطته القديمة في سكنه، وكانت الصورة الوحيدة المتبقية معه، فسألته أين شهاداتك ووثائقك الأخرى ؟ فكانت الإجابة عندما عدت إلى اليمن في بداية التسعينيات احترق سكني وفقدت كل شيء واضطررت لأخذ عود ومسجل ومايك والنزول للشارع والغناء للحصول على لقمة العيش . فسألته كيف وجدت الغناء في الشارع ؟
أجاب الشارع مسرح كبير وأشعر بسعادة وأنا أغني ما يطلبه مني جمهور الشارع من عامة الناس وأكون أكثر سعادة عندما ألتقي بأشخاص سميعة تتذوق الطرب الراقي الأصيل. فقلت له ألم تحاول أن تطرق بعض مؤسسات الدولة بالتأكيد هناك من سيعرفك وسيحاول مساعدتك ؟ فأجاب في أحد الأيام الأستاذ هشام علي وكيل وزارة الثقافة مر بسيارته فشاهدني ونزل وناداني بأستاذي رشيد الحريبي، وسلم علي بحرارة شديدة وأعطاني عنوانه وكرته وطلب مني أن أذهب لمقابلته بمكتبه في وزارة الثقافة سألته هل لبيت دعوته وذهبت لمقابلته ؟ قال : ذهبت أكثر من مرة ولكنهم يمنعوني من الدخول فقلت له لماذا ؟ فأجاب يطلبون مني أن أضع عودي ومسجلي وأدخل بدونهما وهما رأس مالي  لا أستطيع تركهما لأني أخاف أن أفقدهما فهما مصدر قوتي اليومي من دونهما لن أستطيع مجابهة متطلبات الحياة ودفع إيجار السكن ..كان حديثه مؤلما لكنه رغم ذلك يمتلك شخصية قوية صلبة وثقافة عالية وثقة بالنفس. أنهينا حوارنا ببعض الأسئلة التقليدية أذكر منها أصعب موقف حصل له فأجاب عندما سافر في إحدى المرات بالطائرة وتعرضت لمطبات هوائية كبيرة.
 أكملنا التسجيل وخرجنا من مبنى الإذاعة كان الوقت متأخرا تقريبا الساعة الثانية عشرة والنصف ليلا حملت عودي وحمل هو عوده و أدواته ومشينا باتجاه التحرير لعدم وجود وسيلة مواصلات، فوجدنا بعض الشباب ونحن في طريقنا ربما لأنهم شاهدونا نحمل آلتي العود قام أحدهم بمناداتنا بألفاظ غير لائقة قائلا (أهلا بسكارى آخر الليل) فتوقفت لأرد عليه فمنعني الأستاذ رشيد، وقال لي دعك منه إنه أحمق لا يستحق أن تعطيه اهتماما فاستجبت على مضض لنصيحة الفنان الأستاذ رشيد، وفي اليوم التالي قمت بتقديم المادة وعرضها في قاعة المحاضرات بإشراف أستاذي الفاضل د فيصل الشميري رعاه الله، وكانت المادة مفاجأة له ولزملائي؛ لأن الفنان رشيد لم يكن معروفا لدى غالبية الناس رغم أنه قامة كبيرة جدا وهومن أهم الأصوات الفنية في بلادنا صوت مخملي فريد من نوعه وإذاعي قدير ومثقف. من هنا بدأ بعض الزملاء في الكلية من العاملين في الصحافة يسلطون الضوء عليه كفنان له حجمه الكبير وإعلامي قدير وكان دائما ما يرسل لي سلامه مع من يقابلهم من أصدقائي أو زملائي في الجامعة واستمرت علاقتي به وجلساتي المتكررة معه كأستاذ قدير وصديق حميم وودود، وكان يوجه لي نصائح لم أنساها أبدا وصارت بالنسبة لي دروسا أفادتني في حياتي وفي عملي.
 و بعد سنوات عرضت جزءا من اللقاء الذي احتفظت به في كاسيت (vhs) بعد أن أكملت دراستي وعملت في قناة عدن من خلال برنامج مجلة التلفزيون فقرة (شخصية المجلة) وأثناء المونتاج تفاجأ زملائي الذين كانوا بجانبي ومنهم الأستاذان العزيزان درهم سلام وجمال شراء لأنهما يعرفانه من أيام زمان فسألاني متى وأين وجدت الفنان رشيد الحريبي  اختفى من فترة طويلة ولم نسمع عنه ؟ فأجبتهم بأني تعرفت علية أيام الدراسة وهو يعيش في صنعاء من بداية التسعينيات بعد عودته من الغربة خارج الوطن ..ومرت سنوات وانقطع تواصلي به وذات يوم أستدعاني الأستاذ العزيز محسن يسلم مدير عام البرامج وقال: أريدك أن تأخذ المصورين وتذهب لإجراء مقابلة مع الأستاذ رشيد الحريبي، قلت له متأكد الفنان رشيد الحريبي في عدن قال نعم قلت أين نازل فرد الأستاذ محسن في فندق عدن فاستغربت وقلت لنفسي الأستاذ رشيد مسرحه الشارع وملاذه وسكنه الوحيد تلك الغرفة الصغيرة المظلمة ينزل في أفخم فندق بعدن
ربما تغير وضعه ووجد من يقدره أخيرا ليستريح من معاناة الشارع ما تبقى من حياته، ولكن للأسف الشديد لم يكتب لنا اللقاء حينها لأنه غادر وبعدها سافرت إلى صنعاء لتسجيل حلقات مع بعض الشخصيات في برنامج كان اسمه ( أعلام الفن والأدب ) ووضعت ضمن الشخصيات الأستاذ رشيد الحريبي وكنت أتمنى عمل لقاء أوسع وتوثيق جوانب مختلفة من حياته بتصوير مناسب فسألت عنه فأخبروني بأنه يسكن بشكل دائم في غرفة بفندق في شارع القصر، و بأنه حصل على دعم  وتحسن حاله و لم أستوضح أكثر قلت لنفسي ربما حصل على مساعدة كراتب وايجار سكن من وزارة الثقافة وسأسأله عندما ألتقي به حمدت الله وكان متبقى لنا يوم واحد للإقامة في صنعاء لأن الفترة المحددة لنا إنتهت وذهبت إليه ومعي زملائي في التصوير الأستاذ محمد الزاهري والأستاذ محمد فضل   ورحب بي ترحيبا حارا وقلت له ما رأيك أستاذي العزيز أن يكون اللقاء في الفندق الذي ننزل فيه نحن لديهم صالة استقبال واسعة مناسبة للتصوير فأبدى استعداده للمجيء في اليوم التالي، ولكن ما كل ما يتمناه المرء يدركه تواصل معي في اليوم التالي وأعتذر مني وطلب تأجيل اللقاء لأنه مريض لن يستطع التسجيل فقلت له أستاذي الحبيب إذا تمكنا من البقاء غدا سنسجل ما لم سأسافر وفي المرة القادمة سنلتقي ونسجل لقاءنا فقال إن شاء الله وإن استطعت السفر إلى عدن سنلتقي هناك فقلت له سأكون في غاية السعادة بزيارتك ومرت فترة من الزمن ولكن كان القدر أسرع منا ورحل الأستاذ القدير الفنان الكبير رشيد غالب الحريبي تقريبا بعد عام أو أقل إلى جوار ربه أسأل الله له الرحمة والمغفرة والدرجات العلى في الجنة .
 
 

حول الموقع

البيت اليمني للموسيقى والفنون منظمة مجتمع مدني تُعنى بالموسيقى والفنون.