ـ بقلم : د. نزار غانم , مدرسة الطب , جامعة الأحفاد للبنات , امدرمان
 
                             تمهيد :-       
  إن تكون المجتمعات العربية في شبه الجزيرة العربية و المجتمعات غير العربية في القارة الأفريقية المحاذية جغرافيا لها , قد تبادلتا المؤثرات في الفن الموسيقي و الراقص , فإن هذا لمن غير المستغرب بالنظر إلى ديناميكيات التأثير و التأثر في الفن الموسيقي في مجتمعات تقليدية متحايثة عبر آلاف السنين . و قد نتج عن هذا التثاقف أن أضيف إلى التراث الموسيقي على الضفتين أشكال و مضامين تحمل بصمات هذا التشاطؤ , و تمثل مادة خصبة للباحثين في ما كان يعرف بعلم الموسيقى المقارن و أصبح يعرف الآن بعلم موسيقى الشعوب. و يمكن لمتخصصين في علوم و معارف أخرى أن يستفيدوا من قراءة تفكيكية لهذه الآصرة الفنية بحيث تتسع الرؤية دون أن تضيق بالضرورة العبارة. و لا شك أن العلاقة الموسيقية الأفرو- عربية قد حظت حتى وقتنا هذا بعدد من الأبحاث لعل أهم ملامحها أنها خضعت للمنظور الاستشراقي و الانثروبولوجي و في هذا الاطار تسلل المنهج الغربي المعاصر إلى التنظير العام و الخطاب العام الذي أصبح يأتينا من تلامذة الغرب من العرب و الأفارقة , و جاء هذا الخطاب حداثويا و مجيرا لكل التفرعات المعرفية التي تسهم في قراءة النشاط و الجمال الموسيقي و الراقص في إطار ثقافة مجتمع يتسم بالتقليدية . و يحسب لهذا الاتجاه أنه أخذ منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي يتخلص تدريجيا من التمييز الحضاري ضد ما هو غير أوروبي و غربي بحجة الفارق الحضاري الذي راجت معه دعاوى مثل (عبء الرجل الأبيض) و الذي أعطى مبررا للاستعمار و التبشير بكل ما صاحب ذلك من عنف و رق و تحطيم للثقافات المحلية , إضافة لتوطين البيض في جنوب أفريقيا و توطين اليهود في فلسطين.    أما الجهود البحثية المنشورة الأخرى , و أكثرها محلي و مكتوب بالعربية , و التي استجابت للتنظير في الموسيقى الأفرو- عربية فأكثرها انطلق من رؤية ايديولوجية قومية عربية كما أنها جاءت أقل ثراء بسبب غياب المؤازرة بالمعلومات الحقلية و الجمع الميداني المدروس الذي يتطلب تدريبا على جمع المأثور الشعبي الموسيقي و الراقص و الشعر الغنائي حيث تنتصب هنا حواجز اللغة في الاتجاهين. فلا شك أن البحوث المتاحة كافة تقصر عن تقديم بانوراما انطولوجية معرفية محايدة يمكن بالركون اليها توصيف و تحليل المراحل التي مرت بها العلاقة التثاقفية و الخروج باستنتاجات ليس فقط باتجاه الماضي و الحاضر و إنما أيضا بخصوص المستقبل في ظل العولمة الثقافية .
 
و من ينظر إلى الأثر الموسيقى الأفريقي الذي ضخه الرقيق الزنوج في أمريكا الشمالية و الوسطى و الجنوبية و هو لا ينحصر في الجاز و البلوز و الريقي و إنما له تمظهرات كثيرة , سيسلم بأن موسيقى أفريقيا و رقصها قد أصبح فنا مرغوبا شائعا في المجتمعات المدنية المتقدمة كما إنه تحايث مع أرقى الفنون الموسيقية التجردية هناك فأصبح يوجد قالب سمفونية الجاز. كذلك يصح القول إن العرب المهاجرين من جنوب الجزيرة العربية إلى أرخبيل الملايو قد تركوا بصمات لا تخطئها العين في فن الغناء و العزف و الرقص كما هو فن الزفين و فن القمبوس في جنوب شرق آسيا. و الملاحظ أن البعد الجغرافي بين أفريقيا السوداء و الأمريكيتين و البعد الجغرافي بين حضرموت و اندونيسيا أكبر في الحالتين من البعد بين الجزيرة العربية و الهضبة الابسينية مثلا. و هنا علينا أن نستجلب الديناميكيات الثقافية التي تتحكم في الانتشار و نجاح المثاقفة في هذا الاتجاه أو ذاك , و إلا فمن حيث المبدأ فإن انتقال التعابير الموسيقية من مكان لآخر وارد دوما , و أعترف من البداية أن علينا أن نفحص النظريتين اللتين تتبرعان بتفسير وجود هجين موسيقي و أدائي بين جزيرة العرب و أفريقيا جنوب الصحراء و هو ما سنفعله خلال هذه الورقة.
 
      و لعلكم تلاحظون أنني أحاول أن أتناول من حيث المكان الوشائج الموسيقية التي تنبع من حيز جغرافي عربي هو الجزيرة العربية و حيز جغرافي أفريقي هو جنوب الصحراء الكبرى. فإننا إذا فتحنا المجال المكاني لما هو أكبر من ذلك كان علينا فورا أن ننصف بالقول إن مراكز الموسيقى العربية الكبيرة إنتاجيا و اقتصاديا على الأقل مثل تونس و القاهرة و بيروت و دمشق و عمان و بغداد تقع خارج الجزيرة العربية . و في تنظيره عن الموسيقى في أفريقيا يميز الاثيوبي اشنافي كبدى بين موسيقى أفريقيا المشرقية و تشمل الدول العربية الواقعة شمال الصحراء الكبرى , و موسيقى افريقيا جنوب الصحراء. و رغم هذه المؤآنسة المنهجية التي يقدمها هذا الباحث إلا أن الموضوع أكثر تعقيدا من ذلك , فالحدود السياسية التي قامت عليها الدول الافريقية عربية و غير عربية تقريبية و تقوم على الخبث الاستعماري و أبعد ما تكون عن التمشي مع صيرورة التاريخ السياسي و الوطني و حتى القبلي لافريقيا. و هذه النقطة في حد ذاتها دليل على فشل أي تنظير يطمح في نقاء ثقافي فالجيوب الموسيقية هنا و هناك دليل على ديناميكيات غير أيدولوجية تتوخى الاتصال الإنساني و ربما الجمال المسموع بعيدا عن التصنيف الذي شاع متأخرا. إذن حتى عندما نقتصر في تناولنا في هذه الورقة لقصة التفاعل الموسيقي بين جزيرة العرب و افريقيا جنوب الصحراء فإننا نفعل ذلك ليس من منظور قطعي أو حتى منهجي و إنما من منظور تطبيقي و مقارب .
    و قد كان الإنسان الأول في أفريقيا هو المبادر إلى التحرك السكاني في الكرة الأرضية قبل حوالي مئة الف سنة عبر باب المندب و شبه جزيرة سيناء . و كان شكل الإنسان في ذلك الوقت لا يختلف كثيرا عن الشكل المعاصر للبشر من حيث المشي على قدمين و حجم الدماغ في الجمجمة مما مهد للتفكير المجرد و القدرة على خلق الأدوات الحجرية باستخدام ميزة المقابلة لأصبعه الإبهام و حضور ذاكرة تخلق وعيا يعينه في مكابداته كحيوان صياد و جامع للثمار يتفادى الألم و يقتنص اللذة. 
 

حول الموقع

البيت اليمني للموسيقى والفنون منظمة مجتمع مدني تُعنى بالموسيقى والفنون.